(حدائق الوجوه) .. تمرين في كتابة السيرة الذاتية

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
04/08/2008 06:00 AM
GMT



يضمّ كتاب (حدائق الوجوه) عدداً من القصص القصيرة المحبوكة في إطار بنيةٍ حدائقية يرعاها بستانيّ خبير باستبدال الأقنعة وإرشاد الوجوه التائهة في حدائق العالم إلى آجالها الأخيرة. وكنت أنتظر بستانيّ الطفولة هذا لأنتزع من وجهه القناعَ الذي سأروي خلفه حكايات أَجَلي في الحديقة الوسطى (حديقة الأعمار) محاولاً إتّباع خطوات البستانيين العظام الذين ساروا قبلي باتجاه (خان العالم) الذي تصوَّره مولانا جلال الدين الرومي.حاولتُ جهدي أن أؤلف كتاباً يلتحق بكتب الأعمار الشفافة، وأن أحكي سيرةَ ستِّ حدائق محيطة بحديقتي (السابعة) التي تحوي وجوه حياتي، وكان ظنّي أني ألتحق بقافلة البستانيين الذين جمعوا ثمار حدائقهم في سلال أشعارهم وحكاياتهم.

ينتمي كتاب (حدائق الوجوه) إلى نوع الكتب الجامعة أشتاتَ المؤثرات السردية في فلك الكاتب المستأثر بخصوصيته الذاتية، لفضح رغبته وانطوائيته. و يبدو لي أنّ محاولات مؤلفي النصوص السردية جميعهم، تنطوي على هذه الرغبة الدفينة في استكشاف خزينهم الشخصي من الذكريات والتجارب المحرمة، بعد اشتداد التجربة الاجتماعية وتنامي الوازع الأخلاقي تجاه مسؤولية الكتابة عندهم. إذ غالباً ما ينتهي بهم التأليف إلى صناعة كتاب يعشقون تأليفه، بدلاً من أن يؤدوا واجب التأليف في نوع أدبي معين بذاته مفروض عليهم على الضد من غرائزهم الإبداعية. وبالرغم من الفتور والجحود اللذين يستقبل النقاد بهما هذا النوع من الكتب، فإن مؤلفيه يحترقون و يذوبون عشقاً كي يصلوا إلى هذه المرحلة من التأليف غير المعترف بصناعته.
عند الوصول إلى هذه المرحلة من تراكم العمل المبعثر وتشرده، ينتبه الكاتب إلى حدود عمله فينظّم شروده الطويل في مسلك وحيد يقوده إلى بؤرة معارفه الذاتية التي يعرفها بنفسه أكثر مما يدلّه عليها معلمو الطريق وأساتذة الصنعة. وفي هذه البؤرة سيجد ضالته في التنظيم بدلاً من التجميع والتراكم الكمي للنصوص، وسيعرف أن بساطة الاستدلال خير من افتعال البراهين. لهذا فإن (حدائق الوجوه) انفرشَ على مساحة الحياة اللامحدودة بمسافة أو زمان، وطارد الأفكار التي تقنعت بأقنعة الساردين الكبار في حدائق العالم، لكنه اكتفى في آخر المطاف بقناعِ بستانيٍّ يقبع في حديقة الأعمار الوسطى، راعياً وجوه سيرته الذاتية، وما أضألَ محصولها وأبسطَ برهانها وأقربَ دلالاتها، كما تحصلت في نصِّ حكايةٍ متجذّرة في بساطتها الحيوية.
لم أحدد تاريخاً لكتابة نصوص (حدائق الوجوه) لأني أردتُ أن أفتح إطارها على تاريخ التحولات النصية لمتنٍ سرديّ لا يكفّ عن الانفتاح على المجرات الخيالية، من أجل الارتداد إلى موطنه الأصليّ، سيرة الكاتب الذاتية. فهو مجموعة محاولات في الكرّ والفرّ حول مركز السرد الداخلي، لتجميع الإرادة والتوجّه بها نحو الحصن الأخير لحياة الكاتب.
لم استمتع بكتابة قصصٍ كما استمتعتُ بكتابة حكايات (حدائق الوجوه)، وسبقَ لي أن جرّبتُ هذه المتعة في كتابة (بصرياثا) عندما جمعتُ عدداً غزيراً من الصور والأفكار في إطارٍ متعدد الأصول والمنابع. وفيما يخص هذا الكتاب فإني أشير إلى نزهات القراءة الطويلة في كتب الحدائق العربية والهندية والفارسية، قبل أن أهتدي إلى شطر قصيدةٍ لبدر شاكر السياب (إليك يا مفجّر الجمال، تائهون، نهيم في حدائق الوجوه). ولا أجد غير هذا الشاعر أردّ إليه ثمار كتابي، كما أهدي هذه الثمار إلى أولئك البستانيين الذين ساروا بي في ممرات حدائقهم. ولا بدّ لي من أن أشكر مؤسسة (المدى) وراعيها الأستاذ فخري كريم على جميل صنعه وغزارة ظلاله. ولا أنسى الأيدي الرقيقة التي حملت معي مخطوطة (الحدائق): محمود عبد الوهاب وسهيل سامي نادر وعبد الزهرة زكي وعلي الحسينان. أما وجوه حدائقي المتوارية أبداً في الظلّ فهي أقنعة روحي التي ترعى نشوتي وانطفائي، أنواري وظلماتي، فلها ثنائي وحمدي.